مراجعة الكتاب
تُعد رواية شغف من أبرز أعمال الكاتبة والروائية المصرية رشا عدلي، التي عُرفت بقدرتها الفريدة على المزج بين التاريخ والفن والفكر الإنساني بأسلوب روائي راقٍ وعميق. في هذه الرواية، تقدم عدلي عملًا أدبيًا متكاملًا يجمع بين الرومانسية والفلسفة والتاريخ والفن التشكيلي، في حبكة تدور بين زمنين متباعدين، وتناقش موضوعات الهوية، الحرية، والحب الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان.
-
الفكرة الأساسية:
تقوم الرواية على ثنائية الزمن، إذ تدور أحداثها بين القاهرة في القرن الثامن عشر أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وبين القاهرة الحديثة في القرن الحادي والعشرين. تجمع الكاتبة بين هذين الخطّين الزمنيّين في بناء سردي متوازي، ليتلاقى الماضي بالحاضر من خلال الفن والبحث عن المعنى الحقيقي للشغف. -
الحبكة والأحداث:
تبدأ الرواية بقصة آية، فنانة تشكيلية معاصرة تبحث في أرشيف الفن المصري القديم عن لوحات مجهولة الهوية. أثناء بحثها، تقع على لوحة نادرة تحمل توقيع امرأة تُدعى تافيرا، كانت رسامة في زمن الحملة الفرنسية. تنجذب آية إلى هذه القصة الغامضة، فتبدأ في تتبع أثر تلك الفنانة المجهولة، محاولة اكتشاف من تكون وما الذي جعل لوحتها تُنسى عبر الزمن.
في الخط الزمني الآخر، تحكي الرواية قصة تافيرا، الفتاة المصرية الجميلة التي وقعت في حب الجنرال الفرنسي جاك أثناء الحملة على مصر. تجمع بينهما علاقة محظورة يغذيها الشغف بالفن والحياة، لكنها تصطدم بصراع الحضارات والاختلافات الدينية والسياسية التي تمزق تلك العلاقة.
تتقاطع الحكايتان بين الماضي والحاضر بطريقة ذكية وسلسة، حيث تصبح آية مرآة لتافيرا، وتتحول رحلة البحث عن اللوحة إلى رحلة بحث عن الذات، والهوية، ومعنى الإبداع. -
الشخصيات:
تافيرا: رسامة موهوبة من مصر القرن الثامن عشر، تجسد المرأة الحرة التي تبحث عن ذاتها وسط مجتمع ذكوري محافظ، وترفض الخضوع لتقاليد تمنعها من التعبير عن شغفها بالفن.
-
آية: فنانة معاصرة تمثل الجيل الحديث من النساء اللواتي يعانين من ضياع الهوية والبحث عن معنى للحياة في عالم مادي متسارع.
-
جاك: الضابط الفرنسي المثقف، الذي يجسد التناقض بين الغازي والعاشق، بين من جاء محتلًا ومن وقع في حب الشرق وسحره.
هذه الشخصيات الثلاث تنسج معًا شبكة من العلاقات المعقدة التي تحركها العاطفة والعقل والفن، وتكشف عن صراع الإنسان الدائم بين القلب والمنطق.
-
الثيمات الفكرية والفنية:
تتناول شغف مجموعة من القضايا العميقة، أبرزها:قوة الفن كوسيلة للتحرر: ترى الكاتبة أن الفن هو صوت الروح الذي لا يخضع للزمن أو السلطة.
-
مكانة المرأة في التاريخ: تُبرز الرواية معاناة النساء الفنانات في مواجهة التقاليد والقيود الاجتماعية.
-
صراع الحضارات: من خلال الحملة الفرنسية، تطرح الرواية أسئلة حول العلاقة بين الشرق والغرب، والهيمنة الثقافية مقابل التبادل الحضاري.
-
البحث عن الذات: في رحلة آية، نجد إسقاطًا على تجربة الإنسان المعاصر في محاولته التوفيق بين الماضي والحاضر وبين الروح والمادة.
-
الأسلوب واللغة:
تمتاز لغة رشا عدلي بالثراء والتكثيف الشعري، فهي تكتب بلغة عربية أنيقة تلامس الحس الجمالي دون تكلف. الوصف في الرواية دقيق ومتقن، خصوصًا في تصوير المشاهد الفنية واللوحات والعمارة القاهرية القديمة.
السرد يتنقل بسلاسة بين الأزمنة، وتُحافظ الكاتبة على توازن دقيق بين الإيقاع السريع للأحداث والتأملات الفلسفية التي تمنح النص عمقًا خاصًا. -
الرسالة والمغزى:
شغف ليست رواية عن الحب فقط، بل عن القوة الكامنة في الشغف الإنساني ذاته — الشغف بالحياة، بالفن، وبالحرية. تؤكد الرواية أن الإبداع الحقيقي لا يولد من الراحة، بل من الصراع، وأن الفن هو ما يجعل الإنسان خالدًا رغم فناء الجسد والزمن.
كما تسعى الرواية إلى إعادة الاعتبار للمرأة المبدعة في التاريخ، وتذكير القارئ بأن وراء كل لوحة عظيمة روحًا عانت كي تعبّر عن ذاتها. -
الانطباع العام:
رواية شغف عمل متكامل يجمع بين المتعة الأدبية والثراء الفكري، تنقل القارئ في رحلة عبر العصور، حيث يتجلى الفن كجسر بين الماضي والحاضر، وبين الشرق والغرب.
بأسلوبها الرقيق والعميق، نجحت رشا عدلي في أن تخلق عالمًا متوازيًا من الجمال والمعاناة، وجعلت من الشغف ليس مجرد عنوان، بل فلسفة حياة تتغلغل في كل سطر من الرواية.
في النهاية، شغف هي رواية عن الحب الذي لا يعرف حدودًا، والفن الذي لا يموت، والمرأة التي لا تنكسر. إنها عمل يذكّر القارئ بأن الشغف، مهما خمد، يبقى هو الشرارة التي تُنير دروب الروح نحو الحرية والخلود.